بدأ مصطلح المواطنة في الغرب مع ظهور الدولة القومية كنموذج للنظام السياسي بعد معاهدة وستفاليا (1648م).
ولم تتطور حقوق المواطنة عندهم إلا بعد الثورة الفرنسية (1789 : 1799م) بسبب التمييز على أسس متعددة.
وارتبطت هذه الحقوق بمفاهيم العلمانية والديمقراطية.
وهذا الارتباط مجرد واقعة تاريخية، لا تُصادر على المستقبل، أو اختلاف النماذج بحسب الهوية والتاريخ والثقافة، كما لا تحمل أي دلالة قانونية أو لزومية.
فطرق الجنسية "التأسيسية، الأصلية، المكتسبة"، وحالات سحبها، وانعدامها، وحقوق الجنسية تختلف مِن دولة غربية إلى أخرى.
فبعض الدول تأخذ بحق الدم أو النسب، أو حق الإقليم "عدا أبناء الدبلوماسيين المولودين في دولة تأخذ بحق الإقليم طبقاً للبرتوكول الاختياري بشأن الجنسية لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961م"، أو بهما معاً.
والجنسية بالنسب تكون غالباً مِن جهة الأب، ومِن شروطها أن يكون شرعياً، فالعبرة في جنسية الأب بتاريخ الولادة، لا مكانها.
وبعض القوانين تعتد بحق الدم مِن جهة الأم، سواء بشرط كون الأب مجهولاً، أو مجهول الجنسية، أو عديمها، أو بدون شروط.
والفطرة الإنسانية مجبولة على حب الوطن، والانتماء إليه، والسعي لمصلحته، ويُعَدُ الإخراج مِن الوطن وسيلة عقاب في الإسلام، ويقترن بالقتل والقتال، وامتدح الإسلام المهاجرين وفضَّلهم على غيرهم لتركهم أوطانهم لله سبحانه (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) آل عمران، 195.
كما أن الحفاظ على الوطن ضروري لتحقيق المقاصد العليا للشريعة الإسلامية: (حفظ الدين، النفس، العِرض، العقل، المال).
وقد غاب لفظ المواطنة عن المعاجم اللغوية العربية القديمة باستثناء كتاب (خريدة القصر، وجريدة العصر) للعماد الأصبهاني (519 : 597ه) حيث وردت مرة واحدة بمعنى المصاحبة، والعيش مع.
بيد أن وثيقة المدينة (في العام الأول للهجرة) غاب عنها اللفظ، وحضرت بعض معانيه بقوة.
و لاشك أن مفهوم المواطنة في الفكر السياسي الإسلامي يتفق أحياناً، ويختلف أخرى مع الفكر الغربي.
وَوَزْن كلمة المواطنة، يدل على أنه مِن المفاعلة، وفيه إشارة إلى علاقة بين فرد ودولة، وعلاقة بين واجبات وحقوق، يحددها دستور الدولة.
فقد نصت المادة رقم (29/ 1) مِن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه: (على كلِّ فرد واجباتٌ إزاء الجماعة، التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل).
ويمكن تعريف المواطنة بأنها الانتماء للوطن، بقيام الفرد بالواجبات الشرعية الدستورية والقانونية تجاهه، وحصوله على حقوقه المقررة.
فلا يمكن قبول حصر المواطنة والوطنية في شعارات، أو اختلاق أعياد ومناسبات.
وتشترط الدول الغربية العلمانية الديمقراطية أن يُقسم طالب الجنسية كمواطن جديد على ولائه للدولة، واحترامه لأنظمتها ودستورها وهويتها.
بل يُمتحن في قبوله للشذوذ الجنسي "المثلية"، والإلحاد، والنسوية، وغيرها مما يخالف دينه وعقيدته، تحت عنوان احترام خيارات الآخرين !
وحقوق المواطنة عند الغربيين غير متساوية، فمَن لم يولد في الولايات المتحدة، لا يجوز له الترشح للرئاسة طبقاً للدستور، كما أكد ذلك دونالد ترامب عندما تحدث عن إيلون ماسك.
وبعض البلاد تمنع مِن الترشح للرئاسة، وغيرها، مَن لم يكن أبويه، أو أحدهما، حاملاً لجنسية هذه الدولة.
بل هناك دول أخرى ومنها الأرجنتين، لا تشترط في الترشح الديانة المسيحية فقط، بل المذهب الديني أيضاً، كما كان الرئيس رقم (44)، كارلوس منعم (1989 : 1999) الذى نشأ كمسلم لعائلة سورية، ثم ارتد وتحول إلى الكاثوليكية.
فكيف يكون عدم المساواة في حقوق المواطنة دستورياً وقانونياً ومقبولاً في الدول العلمانية الديمقراطية الغربية، بينما مجرد منع المرأة، أو غير المسلمين مِن الولاية العامة في الدول الإسلامية تمييزاً مرفوضاً ؟!
مع العلم بأن ولاية المجالس النيابية تكون بالمجموع، لا بالأفراد، على القول الراجح، وهو ما فعله حزب النور في الانتخابات البرلمانية المصرية عام 2015م، حيث كان الحزب المصري الوحيد، الذى رشح (منفرداً بدون ائتلاف) على قوائمه نساء، ومسيحيين، كشرط مِن شروط القوائم المطلقة المغلقة التي ألزم بها قانون الانتخابات.
كما أن بعض الفقهاء يرى جواز إسناد وزارة التنفيذ للمرأة، ويرى أنها ليست ولاية عامة، بل ويرى الفقيه الشافعي أبو الحسن الماوردي (364 : 450 هـ) في كتابه الأحكام السلطانية، جواز إسناد وزارة التنفيذ لغير المسلمين.
وقد استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر على أن المساواة كضمانٍ دستوري ليست مساواة حسابية، بل يملك المشرع بسلطته التقديرية، ولمقتضيات الصالح العام، وضع شروط موضوعية تتحدد بها المراكز القانونية التي يتساوى بها الأفراد أمام القانون.
(القضية رقم 50 لسنة 21 ق دستورية - جلسة 12 مايو 2002م. الدكتور مصطفى أبو زيد فهمي - الدستور المصري فقهاً وقضاءً - دار المطبوعات الجامعية - طبعة 1996م. الدكتور أحمد فتحي سرور - مبدأ المساواة في القضاء الدستوري - مجلة المحكمة الدستورية العليا - العدد الثاني - إبريل 2003م).
ويرتكز مضمون المساواة على ثلاث ركائز:
- مساواة الجميع في المعاملة القانونية.
- دون أن تكون محض مساواة حسابية.
- مع إمكان التمييز في المعاملة وفقًا لأسبابٍ موضوعية منطقية.
مع العلم بأن كثيراً مِن الدساتير الغربية لا تنص فقط على دين الدولة العلمانية! بل على المذهب الديني الرسمي أيضاً، كالدنمارك، والنرويج، وأيسلندا "الإنجيلية اللوثرية"، واليونان، وبلغاريا "الأرثوذكسية الشرقية"، واسبانيا، والأرجنتين، وكوستاريكا، والسلفادور "الكاثوليكية الرسولية"، وغيرهم.
بل وتشترط بعضها أيضاً مذهباً محدداً لرئيس الدولة.
ولايزال المسلمون وغيرهم حتى اليوم، يتعرضون لأبشع صور التمييز السلبي في دول غربية علمانية ديمقراطية، بالرغم مِن كونهم مواطنين، ويعانون مِن الإسلاموفوبيا، وجرائم الكراهية، ومعاداة المهاجرين والأجانب، والعنصرية.
ومجرد إحصائية بسيطة عن عدد المواطنين المسلمين بالبلاد الغربية، ونسبة مشاركتهم السياسية على سبيل المثال خلال قرن – دون الحقوق المدنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية - توضح لنا التباين بين النظرية والتطبيق (عدد الرؤساء "رجالاً ونساءً"، ورؤساء الوزارات، والوزراء، ونواب البرلمان.. إلخ).
ونحن لا نذكر ذلك لنتشبه بهم، أو لنبرر مسلكاً خاطئاً، بل لنقرر أن مفهوم المصطلح وتطبيقاته عند العرب والمسلمين، به مِن العدل والحكمة ما لا يوجد في واقع المفهوم الغربي وتطبيقاته العملية.
وقد يقول قائل: ولكن قدر الحرية، وتكافؤ الفرص حالياً عندهم أفضل!
نقول: ليس بإطلاق. وفى بلادنا ممارسات لا نرضاها، وليست ناتجة عن منهج الفقه السياسي الإسلامي، بل بسبب البعد عنه.