نشأت الليبرالية في التغيرات الاجتماعية التي عصفت بأوروبا منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، كرد فعل لتسلط الكنيسة والإقطاع على الشعوب الأوروبية في العصور الوسطى (مِن القرن الخامس الميلادي، حتى القرن الخامس عشر الميلادي).
ويتمثل جوهر الليبرالية في تقديم المصلحة الفردية، والاهتمام المفرط بالحرية؛ ومِن أبرز مُنظريها: جون لوك، جان جاك روسو، جون استيوارت مِل.
اختلفت الليبرالية مِن عصر إلى عصر، ومِن فيلسوف إلى آخر، ومِن بلدٍ إلى آخر، ففي الليبرالية الكلاسيكية لا تتدخل الدولة في الحريات، فالواجب عليها حمايتها، ليحقق الفرد حريته الخاصة، بالطريقة التي يريدها، دون وصاية عليه! أما في الليبرالية المعاصرة فتتدخل الدولة لتنظيم الحريات، وإزالة العقبات التي تكون سبباً في عدم التمتع بتلك الحريات.
وتُعتبر الديمقراطية أهم إفرازات الليبرالية، وهي التطبيق العملي للفكر الليبرالي السياسي، بينما يُعتبر النظام الرأسمالي هو التطبيق العملي للفكر الليبرالي الاقتصادي.
فيرى الرأسماليون أن الاقتصاد يُنظم نفسه بنفسه إذا ما تُرِك يعمل بمفرده حراً، ومِن توجهاتهم: دعه يعمل، دعه يمر، نظرية العرض والطلب ... ومِن أبرز نتائج الليبرالية في مجال الاقتصاد: العولمة.
وإذا كانت الديمقراطية هي التطبيق العملي للفكر الليبرالي السياسي، فإن أهم أركان هذا الفكر، والتنظير الفلسفي له هو: العلمانية.
إن معرفة الفكر الليبرالي – حقيقته وأبعاده – يساعد في إدارة معركة الدعوة الإسلامية معه بنجاح، فالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة، والفساد الأخلاقي، وانتشار الإلحاد، مِن إفرازات الترويج لليبرالية.
والليبرالية تُناقِض مفهومَ العبودية، قال تعالى:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات: 56، والعبادة: اسمٌ جامِعٌ لكُلِّ ما يحِبُّه اللهُ ويَرْضاه مِنَ الأقوالِ والأعمالِ؛ الباطِنةِ والظَّاهِرةِ. (الفتاوى 10 / 149).
إن الحرية الحقيقية ليست في الليبرالية المنفلتة مِن القيود الشرعية، إنها في الخروج مِن عبادة العباد، إلى عبادة الله عزَّ وجلَّ، ومِن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومِن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، كما قال رِبعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفُرس يوم القادسية. (البداية والنهاية 7 / 43).
الحرية الحقيقية هي التحرر مِن العبودية للشهوات، والشبهات.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي نَظْمِهِ حَيْثُ قَالَ:
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا ...وَكِدْت بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِك يَا عِبَادِي ... وَأَنْ صَيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا
وقد نَسبهُ إليهِ غير واحدٍ، منهم السفاريني في غذاء الألباب 2 / 475.
والعبودية أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي مقام الوحي:"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ " الكهف: 1. " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ " الفرقان: 1، " فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى " النجم، 10.
وفي مقام الدعوة:" وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوه " الجن: 19.
وفي مقام الإسراء:" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ " الإسراء: 1.
وفي مقام الإعجاز والتحدي:" وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ " البقرة: 23.
فالإنسان لا يمكن أن يكون حراً مع ربه وخالقه، فقد خُلِقَ عبداً، وُلِدَ رغماً عنه، ودَمه يجري في عروقهِ رغماً عنه، ويموت رغماً عنه، لم يُستشر في ولادته وموته، ولا في شكله ونوعه، ولا في جنسيته، ولا في زمان ومكان وجوده " فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ " الانفطار: 8.
فكل مظاهر العبودية قائمة، ومع ذلك له قدرة وإرادة ومشيئة " وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " التكوير: 29، " وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ " البلد: 10.
نعم؛ يمكن أن يكون الإنسان حراً بينه وبين الإنسان، أما مع ربه فلا.
وحدود الحرية ليست حرية الآخرين، بل هي شريعة الله عزَّ وجلَّ.
ومِن العبودية أيضاً: تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما، (عكس الفردانية في الفكر الليبرالي).
فقد منع الإسلام الاحتكار، والربا، وغيرَهما مما قد يعود نفعه على فردٍ واحدٍ، أو فئة قليلة، بينما يعود ضرره على المجتمع عامة.
وكذا نزع الملكية للمنفعة العامة، كفكرة عامة لها أصل شرعي "توسعة الحرمين" مثلاً، وهو مبدأ قانوني أيضاً، وإن كان في بعض تطبيقاته تجاوز للشروط، وانتفاء الموانع.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما أصابَ أحدًا قط همٌّ و لا حزنٌ، فقال: اللهمَّ إني عبدُك، و ابنُ عبدِك، و ابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، و نورَ صدري، و جلاءَ حزني، و ذَهابَ همِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ و حزنَه، و أبدلَه مكانَه فرجًا. قال: فقيل: يا رسولَ اللهِ ألا نتعلَّمُها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعَها أن يتعلَّمَها " رواه أحمد، وابن حبان، والطبراني، وصححه الألباني.