السياسةُ الشرعية تُعبر عن بيئتها الحاضرة، وهي كالشجرة التي ترفرف أغصانُها وأوراقُها على أيامنا، بينما تمتد جذورُها في أعماق الأرض، إلى القرون الخيرية: عصور النبوة، والصحابة، والتابعين.
وكثيرٌ مِن مسائلها قبل انفراط عِقد الخلافة، وتسلط الغرب والشرق على بلاد المسلمين، وشيوع الشبهات والشهوات، ليست كما بعدها، مِن حيث الفتوى، لا الأحكام.
وهذا يجعلنا في حاجةٍ ماسةٍ إلى العلماء الراسخين في العلم، لتنزيل الأدلة الشرعية على مناطها الصحيح، في أحلك المواقف والمسائل، (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
ويُعدُّ كتاب (وثيقة المدينة ملامح ومعالم) لفضيلة الشيخ الدكتور ياسر برهامي - حفظه الله تعالى - مِن أهم كتب السياسة الشرعية في الفترة الحالية، لما تضمنه مِن مسائل هامة تمس إليها الحاجة، بأسلوبٍ رصين جمع بين الأصالة والمعاصرة.
ومِن ذلك:
جواز العهود غير محددة المدة:
لأن الصلح مع اليهود في الوثيقة لم يكن محدد المدة، وقد وَفَّى به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن نقضه اليهود قبيلةً بعد قبيلة، وقد دلَّ عليه القرآن، وظل بعضه باقياً إلى ذي الحجة عام (9ه).
فصدر سورة براءة تضمنت إنهاء هذه العهود المطلقة في العاشر مِن ربيع الثاني عام (10ه)، كما تضمنت أيضاً إثبات مشروعيتها باختلاف الأحوال حيث لم تُنسخ نسخاً اصطلاحياً؛ لأن العهد محدد المدة لَزِمَ الوفاء به طالما وَفَّى المشركون، (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)، (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ)، فدل ذلك على أنه لم يُنسخ.
ويشهد لذلك أيضاً صلح يهود خيبر بعد فتحها صلحاً غير محدد المدة، ولم يبادر إلى إخراجهم مباشرة بعد نزول سورة براءة، إلى عهد عمر - رضى الله عنه -، ولو كان النسخ الاصطلاحي هو المقصود لما استمر هذا الصلح.
فسورة براءة ألغت المعاهدات المطلقة القائمة إلا ما أبقاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيهود خيبر، فهي إذًا لا تمنع إنشاء هذه العهود عند الحاجة إليها، وإنما تنهيها وتُعْلِم المشركين بانتهائها.
والعهود المطلقة عقود جائزة، بخلاف عقد الذمة فإنه مؤبد لازمٌ متوارَثٌ جيلاً بعد جيل، لا يجوز إلغاؤه طالما التزموا به، وبذلك لا يؤدي إلى ترك الجهاد بالكلية - كما زعم البعض -، بل حتى عقد الذمة ينتهي بنزول عيسى عليه السلام.
والعهود المؤقتة لازمة ما وفَّوا، والعهود المطلقة ليست لازمة، بل لكلٍ منهما فسخُها. ولو جُعِلت العهود المؤقتة جائز لكل طرفٍ فسخها جاز بشرط النبذ على سواء.
جواز الصلح على غير جزية:
فلم تذكر الوثيقة مسألة الجزية، وآية الجزية رغم أنها متأخرة؛ إلا أن الجمع بين الأدلة ممكنٌ، والنسخ لا يُلجأ إليه إلا مع:
- إثبات التاريخ.
- عدم إمكان الجمع.
فإذا كان الجمع ممكناً وجب إعمال الدليلين، والجمع هنا بحمْلِ كلِّ دليلٍ على وقت، وعلى حال مختلف عن الحال الآخر، فعهد يهود المدينة وعهد خيبر، لم يتضمنا جزية.
جواز اختصاص غير المسلمين بإقليمٍ يشبه الحكم الذاتي، أو "الفيدرالية":
دلت سورة الأحزاب أن اليهود لهم أرضٌ وديارٌ لم يتعرض لها المسلمون قبل الغدر، وكذلك حصونٌ وأسلحةٌ، (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ)، (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) فأشبه اختصاصهم بإقليم حكم ذاتي، أو "فيدرالي".
وهذا يبين حدود الصلح بحسب المصلحة والقدرة، والحاجة إليه، لا أنهم يُمكَّنون مِن ذلك في كل حال.
العقود المطلقة لا تمنع مِن بقاء دور العبادة، وتجديدها، وإنشاء غيرها:
لم تتعرض الوثيقة لمسألة دور العبادة، وما وردَ عن أهل العلم في منع إقامة دور العبادة لغير المسلمين في بلاد المسلمين محمول على العقود المؤبدة (الذمة).
أما في حال ضعف شوكة المسلمين، فلهم أن يعقدوا مثل هذه العقود المطلقة، التي لا يُمنع منها، على نحو ما كان ليهود المدينة.
والوثيقة العمرية مِن باب اختلاف التنوع المبني على مراعاة المصلحة والمفسدة، والقدرة والعجز.
مِن فوائد قوله تعالى: (فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)، وحديث زنا اليهوديين:
- جواز وجود مدارس خاصة بأهل الذمة والمعاهَدين.
- للمعاهدين التحاكم إلى شريعتهم في شئونهم الخاصة وما لا يعم فساده، أما ما يعم فساده فيجب علينا الحكم فيهم بالشريعة الإسلامية.
مِن الملامح الاقتصادية لوثيقة المدينة:
- مبدأ الاستقلال المالي لكل طائفة.
- مبدأ الدفاع المشترك عن المدينة.
ومِن الملامح الحقوقية والقضائية:
- تحديد المرجعية التشريعية في الشريعة الإسلامية.
- تحديد المرجعية التنفيذية في حاكم المسلمين.
- حق الأمن والدفاع عن الأنفس والأعراض والأموال لجميع رعايا الدولة الإسلامية الملتزمين بهذه الوثيقة.
- حرية الإقامة والانتقال والسفر.
ومِن المعالم الاجتماعية:
- مبدأ وحدة المجتمع على رابطة الدين، دون غيرها مِن روابط النسب أو القبيلة أو الجنس أو اللون.
مبدأ التعايش السلمي:
وتتمثل حقيقته مع غير المسلمين، مع الحفاظ على الدين، وعقد الولاء والبراء عليه، في جواز التعامل مع المسالمين، ومبادلتهم مصلحة بمصلحة، وخاصة مع عدم وجود هذه المصلحة عند المسلمين أنفسهم (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).